كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَشَوَاهِدِهَا: وَتَمَسَّكَ بِهَا مَنْ قَالَ: لَا يَرِثُ أَهْلُ مِلَّةٍ كَافِرَةٍ أَهْلَ مِلَّةٍ أُخْرَى كَافِرَةٍ، وَحَمَلَهَا الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِإِحْدَى الْمِلَّتَيْنِ الْإِسْلَامُ، وَبِالْأُخْرَى الْكُفْرُ، فَيَكُونُ مُسَاوِيًا لِلرِّوَايَةِ الَّتِي بِلَفْظِ الْبَابِ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى ظَاهِرِ عُمُومِهَا، حَتَّى يَمْتَنِعَ عَنِ الْيَهُودِيِّ مَثَلًا أَنْ يَرِثَ مِنَ النَّصْرَانِيِّ. وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْكَافِرَ يَرِثُ الْكَافِرَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْأَكْثَرِ، وَمُقَابِلُهُ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَعَنْهُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ، وَكَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَتَوَارَثُ حَرْبِيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ، فَإِنْ كَانَا حَرْبِيَّيْنِ شُرِطَ أَنْ يَكُونَا مِنْ دَارٍ وَاحِدَةٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا فَرْقَ، وَعِنْدَهُمْ وَجْهٌ كَالْحَنَفِيَّةِ. وَعَنِ الثَّوْرِيِّ وَرَبِيعَةَ وَطَائِفَةٍ: الْكُفْرُ ثَلَاثٌ: يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ وَغَيْرُهُمْ، فَلَا تَرِثُ مِلَّةٌ مِنْ هَذِهِ مِنْ مِلَّةٍ مِنَ الْمِلَّتَيْنِ. وَعَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ كُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الْكُفَّارِ مِلَّةٌ فَلَمْ يُوَرِّثُوا مَجُوسِيًّا مِنْ وَثَنِيٍّ وَلَا يَهُودِيًّا مِنْ نَصَرَانِيٍّ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَبَالَغَ فَقَالَ: وَلَا يَرِثُ أَهْلُ نِحْلَةٍ مِنْ دِينٍ أَحَدَ أَهْلِ نِحْلَةٍ أُخْرَى مِنْهُ كَالْيَعْقُوبِيَّةِ وَالْمَلَكِيَّةِ مِنَ النَّصَارَى. اهـ.
وَأَقْرَبُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ إِلَى مَا عَلَيْهِ تِلْكَ الْمِلَلِ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُمْ هُوَ مِمَّنْ قَبْلَهُ.
ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ: وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرْتَدِّ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: يَصِيرُ مَالُهُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَكُونُ فَيْئًا إِلَّا إِنْ قَصَدَ بِرِدَّتِهِ أَنْ يَحْرِمَ وَرَثَتَهُ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ لَهُمْ. وَكَذَا قَالَ فِي الزِّنْدِيقِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: مَا كَسَبَهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَبَعْدَ الرِّدَّةِ لِبَيْتِ الْمَالِ. إِلَخْ.
وَذَكَرَ الْحَافِظُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يُوَرِّثُ الْمُسْلِمَ مِنَ الْكَافِرِ وَلَا عَكْسَ، وَمِنْهُ أَنَّ أَخَوَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَيْهِ، مُسْلِمٌ وَيَهُودِيٌّ مَاتَ أَبُوهُمَا يَهُودِيًّا فَحَازَ ابْنُهُ الْيَهُودِيُّ مَالَهُ فَنَازَعَهُ الْمُسْلِمَ فَوَرَّثَ مُعَاذٌ الْمُسْلِمَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِثْلَ هَذَا عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: نَرِثُ أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا يَرِثُونَا، كَمَا يَحِلُّ لَنَا النِّكَاحُ مِنْهُمْ، وَلَا يَحِلُّ لَهُمْ مِنَّا، وَبِهِ قَالَ مَسْرُوقٌ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَإِسْحَاقُ. اهـ. وَعَلَيْهِ الْإِمَامِيَّةُ وَبَعْضُ الزَّيْدِيَّةِ.
{إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} أَيْ: إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا مَا ذَكَرَ وَهُوَ مَا شَرَعَ لَكُمْ مِنْ وِلَايَةِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، وَتَنَاصُرِكُمْ وَتُعَاوُنِكُمْ تُجَاهَ وِلَايَةِ الْكُفَّارِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَلَيْكُمْ.
وَمِنَ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ مَعَ الْكُفَّارِ إِلَى أَنْ يَنْقَضِيَ عَهْدُهُمْ أَوْ يُنْبَذَ عَلَى سَوَاءٍ- يَقَعُ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالْفَسَادِ الْكَبِيرِ فِي الْأَرْضِ مَا فِيهِ أَعْظَمُ الْخَطَرِ عَلَيْكُمْ، بِتَخَاذُلِكُمْ وَفَشَلِكُمُ الْمُفْضِي إِلَى ظَفَرِ الْكُفَّارِ بِكُمْ وَاضْطِهَادِكُمْ فِي دِينِكُمْ لِصَدِّكُمْ عَنْهُ كَمَا كَانُوا يَفْتِنُونَ ضُعَفَاءَكُمْ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَقِيلَ: إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فِي الْمِيرَاثِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَقَدَّمَ مَا فِيهِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ عَنْهُ الْبَغَوِيُّ هُنَا ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِلَّا تَعَاوَنُوا وَتَنَاصَرُوا، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: جَعَلَ اللهُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ أَهْلَ وِلَايَةٍ فِي الدِّينِ دُونَ مَنْ سِوَاهُمْ، وَجَعَلَ الْكَافِرِينَ بَعْضَهَمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ: إِلَّا تَفْعَلُوهُ وَهُوَ أَنْ يَتَوَلَّى الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ دُونَ الْمُؤْمِنِ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ فَالْفِتْنَةُ فِي الْأَرْضِ: قُوَّةُ الْكُفْرِ، وَالْفَسَادُ الْكَبِيرُ: ضَعْفُ الْإِسْلَامِ. اهـ.
وأقول: الْأَظْهَرُ أَنَّ الْفِتْنَةَ فِي الْأَرْضِ مَا ذَكَرْنَا مِنِ اضْطِهَادِهِمُ الْمُسْلِمِينَ وَصَدِّهِمْ عَنْ دِينِهِمْ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا سَبَقَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهِيَ مِنْ لَوَازِمَ قُوَّةِ الْكُفْرِ وَسُلْطَانِ أَهْلِهِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ يَدَّعُونَ حُرِّيَّةَ الدِّينِ مِنْهُمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ يَفْتِنُونَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِمْ حَتَّى فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسِهِمْ، بِمَا يُلْقِيهِ دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ مِنْهُمْ مِنَ الْمَطَاعِنِ فِيهِ وَفِي الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَبِمَا يُغْرُونَ بِهِ الْفُقَرَاءَ مِنَ الْعَوَامِّ الْجَاهِلِينَ مِنَ الْمَالِ وَأَسْبَابِ الْمَعِيشَةِ، كَذَلِكَ الْفَسَادُ الْكَبِيرُ مِنْ لَوَازِمَ ضَعْفِ الْإِسْلَامِ الَّذِي يُوجِبُ عَلَى أَهْلِهِ تَوَلِّي بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي التَّعَاوُنِ وَالنُّصْرَةِ وَعَدَمِ تَوَلِّي غَيْرِهِمْ مِنْ دُونِهِمْ، وَيُوجِبُ عَلَى حُكُومَتِهِ الْقَوِيَّةِ الْعَدْلَ الْمُطْلَقَ وَالْمُسَاوَاةَ فِيهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَالْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، وَالْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ- كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مِرَارًا- وَالَّذِي يُحَرِّمُ الْخِيَانَةَ وَنَقْضَ الْعُهُودِ حَتَّى مَعَ الْكُفَّارِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا مُفَصَّلًا وَذَكَّرْنَا بِهِ آنِفًا. وَمَنْ وَقَفَ عَلَى تَارِيخِ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي سَقَطَتْ وَبَادَتْ وَالَّتِي ضَعُفَتْ بَعْدَ قُوَّةٍ، يَرَى أَنَّ السَّبَبَ الْأَعْظَمَ لِفَسَادِ أَمْرِهَا تَرْكُ تِلْكَ الْوِلَايَةِ أَوِ اسْتِبْدَالُ غَيْرِهَا بِهَا، وَمِنَ الظَّاهِرِ الْجَلِيِّ أَنَّ مَسْأَلَةَ التَّوَارُثِ لَا تَقْتَضِي هَذِهِ الْفِتْنَةَ الْعَظِيمَةَ، وَلَا هَذَا الْفَسَادَ الْكَبِيرَ.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الشَّرْطِيَّةِ: أَيْ: إِنْ لَمْ تُجَانِبُوا الْمُشْرِكِينَ، وَتُوَالُوا الْمُؤْمِنِينَ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ فِي النَّاسِ، وَهُوَ الْتِبَاسُ الْأَمْرِ وَاخْتِلَاطُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْكَافِرِينَ، يَقَعُ بَيْنَ النَّاسِ فَسَادٌ مُنْتَشِرٌ عَرِيضٌ طَوِيلٌ. اهـ.
وَأَقُولُ: إِنَّ اخْتِلَاطَ الْمُؤْمِنِينَ الْأَقْوِيَاءَ فِي إِيمَانِهِمْ بِالْكَافِرِينَ سَبَبٌ قَوِيٌّ لِانْتِشَارِ الْإِسْلَامِ وَظُهُورِ حَقِّيَّتِهِ وَفَضَائِلِهِ كَمَا وَقَعَ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ اللهُ تَعَالَى فَتْحًا مُبِينًا. وَكَذَلِكَ كَانَ انْتِشَارُ الْمُسْلِمِينَ فِي كَثِيرٍ مِنْ بِلَادِ الْكُفْرِ بِقَصْدِ التِّجَارَةِ سَبَبًا لِإِسْلَامِ أَهْلِهَا كُلِّهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ كَمَا وَقَعَ فِي جَزَائِرِ الْهِنْدِ الشَّرْقِيَّةِ (جَاوَهْ وَمَا جَاوَرَهَا) وَفِي أَوَاسِطِ إِفْرِيقِيَّةَ. فَهَذَا الْقَوْلُ عَلَى إِطْلَاقِهِ ضَعِيفٌ بَلْ مَرْدُودٌ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ فِي حَالِ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ، وَاخْتِلَاطِهِمْ بِمَنْ هُمْ أَعْلَمُ مِنْهُمْ بِالْجَدَلِ، وَإِيرَادِ الشُّبُهَاتِ فِي صُورَةِ الْحُجَجِ مَعَ تَعَصُّبِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَيْهِ، كَحَالِ هَذَا الزَّمَانِ فِي بِلَادٍ كَثِيرَةٍ، وَلَوْلَا هَذَا التَّنْبِيهُ لَمَا نَقَلْتُ هَذَا الْقَوْلَ.
وَرَجَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ نَقْلِ الْخِلَافِ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا فِي وِلَايَةِ التَّنَاصُرِ وَالتَّعَاوُنِ وَوُجُوبِ الْهِجْرَةِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ، وَتَحْرِيمِ الْمُقَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْمَعْرُوفَ الْمَشْهُورَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ مَعْنَى الْوَلِيِّ أَنَّهُ النَّصِيرُ وَالْمُعِينُ، أَوِ ابْنُ الْعَمِّ وَالنَّسِيبُ، فَأَمَّا الْوَارِثُ فَغَيْرُ مَعْرُوفٍ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِيهِ. ثُمَّ قَالَ مَا نَصُّهُ: وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ تَبَيَّنَ أَنَّ أَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِقَوْلِهِ: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} تَأْوِيلُ مِنْ قَالَ: إِلَّا تَفْعَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنَ التَّعَاوُنِ وَالنُّصْرَةِ عَلَى الدِّينِ. إِلَخْ.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} هَذَا تَفْضِيلٌ لِلصِّنْفَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَشَهَادَةٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِلْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَالْأَنْصَارِ بِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقَّ الْإِيمَانِ وَأَكْمَلَهُ، دُونَ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَقَامَ بِدَارِ الشِّرْكِ مَعَ حَاجَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ إِلَى هِجْرَتِهِ إِلَيْهِمْ، وَأَعَادَ وَصْفَهُمُ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّهُمْ بِهِ كَانُوا أَهْلًا لِهَذِهِ الشَّهَادَةِ وَمَا يَلِيهَا مِنَ الْجَزَاءِ فِي قَوْلِهِ: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، وَتَنْكِيرُ {مَغْفِرَةٌ} لِتَعْظِيمِ شَأْنِهَا، بِدَلِيلِ مَا ذُكِرَ مِنْ أَسْبَابِهَا قَبْلَهَا، وَمِنْ وَصْفِ الرِّزْقِ بَعْدَهَا بِكَوْنِهِ كَرِيمًا: أَيْ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ تَامَّةٌ مَاحِيَةٌ لِمَا فَرَطَ مِنْهُمْ كَأَخْذِ الْفِدَاءِ مِنَ الْأَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ، وَرِزْقٌ كَرِيمٌ فِي دَارِ الْجَزَاءِ، أَيْ رِزْقٌ حَسَنٌ شَرِيفٌ بَالِغٌ دَرَجَةَ الْكَمَالِ فِي نَفْسِهِ وَفِي عَاقِبَتِهِ، وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ الْمَقْرُونَةُ بِهَذَا الْجَزَاءِ الْعَظِيمِ تُرْغِمُ أُنُوفَ الرَّوَافِضِ، وَتَلْقَمُ كُلَّ نَابِحٍ بِالطَّعْنِ فِي أَصْحَابِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم الْحَجَرَ، وَلاسيما زَعْمُهُمْ بِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ قَدِ ارْتَدُّوا بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهَذِهِ الْآيَةُ تُنْبِئُ عَنْ صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِ اللهِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَوْلِهِ: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} إِنَّمَا هُوَ النُّصْرَةُ وَالْمَعُونَةُ دُونَ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَقَّبَ ذَلِكَ بِالثَّنَاءِ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالْخَبَرِ عَمَّا لَهُمْ عِنْدَهُ دُونَ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا} الْآيَةَ. وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ قَبْلَ ذَلِكَ الدَّلَالَةُ عَلَى حُكْمِ مِيرَاثِهِمْ لَمْ يَكُنْ عَقِيبَ ذَلِكَ إِلَّا الْحَثُّ عَلَى مُضِيِّ الْمِيرَاثِ عَلَى مَا أَمَرَ وَفِي صِحَّةِ ذَلِكَ، كَذَلِكَ الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ عَلَى أَنَّهُ لَا نَاسِخَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لِشَيْءٍ وَلَا مَنْسُوخَ. اهـ.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} هَذَا هُوَ الصِّنْفُ الرَّابِعُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ، وَهُمْ مَنْ تَأَخَّرَ إِيمَانُهُمْ وَهِجْرَتُهُمْ عَنِ الْهِجْرَةِ الْأُولَى أَوْ عَنْ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَيَكُونُ الْفِعْلُ الْمَاضِي آمَنُوا وَمَا بَعْدَهُ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، وَقِيلَ: عَنْ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ، وَالسُّورَةُ كُلُّهَا نَزَلَتْ عَقِبَ غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَحُكْمُهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ أَنَّهُمْ يَلْتَحِقُونَ بِالْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَالْأَنْصَارِ فِيمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ أَحْكَامِ وِلَايَتِهِمْ وَجَزَائِهِمْ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ فِي الْوِلَايَةِ، يَجِبُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحَقِّ وَالنُّصْرَةِ فِي الدِّينِ وَالْمُوَارَثَةِ مِثْلُ الَّذِي يَجِبُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ وَلِبَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَلَا خِلَافَ فِيهِ عَلَى مَا أَعْلَمُ.
وَأَقُولُ: إِنَّ جَعْلَهُمْ تَبَعًا لَهُمْ وَعَدَّهُمْ مِنْهُمْ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ السَّابِقَيْنِ عَلَى اللَّاحِقِينَ وَلاسيما بَعْدَ اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ مِنْ قُوَّةٍ وَضَعْفٍ وَغِنًى وَفَقْرٍ، قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى} [57: 10] وَقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [9: 100] وَقَدْ بَيَّنَ فِي سِيَاقِ قِسْمَةِ الْفَيْءِ مِنْ سُورَةِ الْحَشْرِ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ الثَّلَاثَ فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [5: 8- 10] وَفَضِيلَةُ السَّبْقِ مَعْلُومَةٌ بِالنَّقْلِ وَالْعَقْلِ {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [56: 10- 12] وَالرَّوَافِضُ يَكْفُرُونَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا بِمَا يَطْعَنُونَ بِهِ عَلَى جُمْهُوِرِ الصَّحَابَةَ وَعَلَى السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ خَاصَّةً، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ أَوَّلَ أُولَئِكَ السَّابِقِينَ بِالْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ مَعًا الَّذِينَ شَهِدَ اللهُ تَعَالَى بِصِدْقِهِمْ هُوَ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، وَسَخِطَ عَلَى أَعْدَائِهِ وَالطَّاعِنِينَ فِيهِ الْمُكَذِّبِينَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ ضِمْنًا.
{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ} أُولُو الْأَرْحَامِ: هُمْ أَصْحَابُ الْقَرَابَةِ جَمْعُ رَحِمٍ (كَكَتِفٍ وَقُفْلٍ) وَأَصْلُهُ رَحِمُ الْمَرْأَةِ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُ تَكْوِينِ الْوَلَدِ مِنْ بَطْنِهَا، وَيُسَمَّى بِهِ الْأَقَارِبُ؛ لِأَنَّهُمْ فِي الْغَالِبِ مِنْ رَحِمٍ وَاحِدٍ، وَفِي اصْطِلَاحِ عُلَمَاءِ الْفَرَائِضِ: هُمُ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ بِفَرْضٍ وَلَا تَعْصِيبٍ وَهُمْ عَشْرَةُ أَصْنَافٍ: الْخَالُ وَالْخَالَةُ، وَالْجَدُّ لِلْأُمِّ، وَوَلَدُ الْبِنْتِ، وَوَلَدُ الْأُخْتِ، وَبِنْتُ الْأَخِ، وَبِنْتُ الْعَمِّ، وَالْعَمَّةُ، وَالْعَمُّ لِلْأُمِّ، وَابْنُ الْأَخِ لِلْأُمِّ، وَمَنْ أَدْلَى بِأَحَدٍ مِنْهُمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي إِرْثِهِمْ لِمَنْ لَا وَارِثَ لَهُ بِمَا ذُكِرَ، وَاسْتَدَلَّ الْمُثْبِتُونَ بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ يَشْمَلُهُمْ، وَكَذَا عُمُومِ قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [4: 7] وَبِأَحَادِيثَ آحَادِيَّةٍ فِي إِرْثِ الْخَالِ فِيهَا مَقَالٌ، وَبِحَدِيثِ: «ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ» وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِتَوْرِيثِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ: عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ. وَمِنَ التَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ: مَسْرُوقٌ وَمُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَبَعْضُ أَئِمَّةِ الْعِتْرَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدِي وَلاسيما فِي هَذَا الزَّمَانِ. وَتَرَى فِي كُتُبِ الْفَرَائِضَ مَا يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ وَارِثٍ مِنْهُمْ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا قَبْلَهَا نَزَلَتْ فِي نَسْخِ هَذَا الْإِرْثِ وَهَذَا مَشْهُورٌ عَنْهُ، وَهُوَ مِنْ أَضْعَفِ التَّفْسِيرِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [4: 33] أَنَّهُ فَسَّرَ الْمُوَالِيَ بِالْوَرَثَةِ. ثُمَّ قَالَ فِي تَفْسِيرِ {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} [4: 33]: كَانَ الْمُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَرِثُ الْمُهَاجِرِيُّ الْأَنْصَارِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ لِلْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} [4: 33] نُسِخَتْ. ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنَ النَّصْرِ وَالرِّفَادَةِ وَالنَّصِيحَةِ وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ فَيُوصَى لَهُ. اهـ.
هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ، وَهُوَ أَوْضَحُ مِنْ لَفْظِهِ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا غُمُوضٌ وَإِشْكَالٌ فِي إِعْرَابِهِ وَمَعْنَاه وَالْمُرَادُ لَنَا مِنْهُ أَنَّهُ فَسَّرَ الْمُعَاقَدَةَ بِالْمُؤَاخَاةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَبِأَنَّ النَّاسِخَ لَهَا هَذِهِ الْآيَةُ. قَالَ الْحَافِظُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: وَحَمَلَهَا غَيْرُهُ عَلَى أَعَمِّ مِنْ ذَلِكَ أَيْ مِمَّا كَانُوا يَتَعَاقَدُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِرْثِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَنْهُ مِثْلَ هَذَا وَأَنَّ النَّاسِخَ لَهُ آيَةُ الْأَحْزَابِ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [33: 6] وَهِيَ مُفَصَّلَةٌ وَسُورَتُهَا قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَفِيهَا الْكَلَامُ عَلَى غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ الَّتِي كَانَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ بِسَنَتَيْنِ وَقِيلَ بِثَلَاثِ سِنِينَ، فَالتَّحْقِيقُ أَنَّ آيَةَ الْأَنْفَالِ وَسُورَتُهَا نَزَلَتْ قَبْلَ آيَاتِ الْإِرْثِ وَقَبْلَ سُورَتَيِ النِّسَاءِ وَالْأَحْزَابِ فَهِيَ مُطْلَقَةٌ عَامَّةٌ.
وَالْمَعْنَى الْمُتَبَادِرُ مِنْ نَصِّ الْآيَةِ وَقَرِينَةِ السِّيَاقِ أَنَّهَا: فِي وِلَايَةِ الرَّحِمِ وَالْقَرَابَةِ، بَعْدَ بَيَانِ وِلَايَةِ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ، فَهُوَ عَزَّ شَأْنُهُ يَقُولُ: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ وَأَحَقُّ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الْأَجَانِبِ بِالتَّنَاصُرِ وَالتَّعَاوُنِ- وَكَذَا التَّوَارُثِ فِي دَارِ الْهِجْرَةِ فِي عَهْدِ وُجُوبِ الْهِجْرَةِ ثُمَّ فِي كُلِّ عَهْدٍ- هُمْ أَوْلَى بِذَلِكَ فِي كِتَابِ اللهِ أَيْ فِي حُكْمِهِ الَّذِي كَتَبَهُ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَوْجَبَ بِهِ عَلَيْهِمْ صِلَةَ الْأَرْحَامِ وَالْوَصِيَّةَ بِالْوَالِدَيْنِ وَذِي الْقُرْبَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا نَزَلَ قَبْلَهَا وَأَكَّدَهُ فِيمَا نَزَلَ بَعْدَهَا كَآيَةِ الْأَحْزَابِ فِي مَعْنَاهَا، وَكَقَوْلِهِ بَعْدَ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ {كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ} [3: 24] فَهُوَ قَدْ أَوْجَبَهُ فِي دِينِ الْفِطْرَةِ، كَمَا جَعَلَهُ مِنْ مُقْتَضَى غَرَائِزِ الْفِطْرَةِ، فَالْقَرِيبُ ذُو الرَّحِمِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِوَلَاءِ قَرِيبِهِ وَبِرِّهِ، وَمُقَدَّمٌ عَلَيْهِمْ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْوِلَايَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَمْرِهِ كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْأَوْلَوِيَّةُ لَا تَقْتَضِي عَدَمَ التَّوَارُثِ الْعَارِضِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالْمُتَعَاقِدِينَ عَلَى أَنْ يَرِثَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُ الْعَرَبُ، وَإِذَا وُجِدَ قَرِيبٌ وَبَعِيدٌ يَسْتَحِقَّانِ الْبِرَّ وَالصِّلَةَ فَالْقَرِيبُ مُقَدَّمٌ كَمَا قال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [3: 36] وَقَالَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِأَهْلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ عَنْ أَهْلِكَ فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ فَهَكَذَا وَهَكَذَا أَيْ فَلِلْمُسْتَحِقِّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي وَصْفِ أُولِي الْأَلْبَابِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ مِنْ سُورَةِ الرَّعْدِ الْمَكِّيَّةِ: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [13: 20- 21] الْآيَةَ. وَعَهْدُ اللهِ هُنَا يَشْمَلُ جَمِيعَ مَا عَهِدَهُ إِلَى الْبَشَرِ مِنَ التَّكَالِيفِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِلَفْظِ الْعَهْدِ كَقَوْلِهِ: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [36: 60] الْآيَتَيْنِ أَوْ بِلَفْظٍ آخَرَ- وَمنه: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} [7: 27] وَأَمْثَالِهِ مِنَ النِّدَاءِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ- وَمِنَ الْوَصَايَا فِي السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا (الْأَنْعَامِ) كَمَا يَشْمَلُ مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ بِلَفْظِ الْعَهْدِ أَوْ بِدُونِهِ، وَمَا يُعَاهِدُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَيْهِ بِشُرُوطِهِ، وَمِنْهَا أَلَّا يَكُونَ عَلَى شَيْءٍ مُحَرَّمٍ. وَيَدْخُلُ فِي الْعَهْدِ الْعَامِّ مَا أَوْجَبُهُ مِنْ مُوَالَاةِ الْمُؤْمِنِينَ وَحُقُوقِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ صِفَةِ هَؤُلَاءِ مَا يُقَابِلُهَا مِنْ صِفَاتِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَهُوَ مَا ذُكِرَ هُنَا. وَقَفَّى عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ بِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَهُوَ أَهَمُّ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ مَنْ يَصِلُونَ عَنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ الْمَدَنِيَّةِ: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [2: 27] وَقَدْ سَبَقَ فِي تَفْسِيرِهَا أَنَّ الْعَهْدَ الْإِلَهِيَّ قِسْمَانِ: فِطْرِيٌّ خَلْقِيٌّ، وَدِينِيٌّ شَرْعِيٌّ.